الفكر
الإسلامي
هل
نزل جبريل بمعاني القرآن؟
بقلم :
الأستاذ أحمد محمد جمال رحمه الله
في مجلة (القافلة) عدد رمضان (1400هـ) دراسة مطولة عن ليلة القدر بقلم الكاتب الفاضل الدكتور أحمد جمال العمري أورد فيها أقوال المفسرين والمحدثين عن ليلة القدر وبركاتها ، واختلاف العلماء في تحديدها، وعن نزول القرآن أولاً إلى سماء الدنيا جملةً واحدة ، وثانياً موَزَّعاً ومفَرَّقاً حسب الوقائع والأحداث، على الرسول عليه الصلاة والسلام .
كما
تعرَّض الدكتور العمري – في هذه الدراسة – إلى أقوال العلماء عن حقيقة القرآن
ومعنى أنه كلام الله عزّ وجلّ . وقد لفت انتباهي من بين هذه الأقوال المتعددة ما
نقله الكاتب الفاضل عن كتاب (البرهان – للزركشي) : إن جبريل إنما نزل بالمعاني وأن
النبي ﷺ
علم تلك المعاني وعبر عنها بلغة العرب ، وقد تمسك القائل بهذا الرأي بظاهر قوله
عزّ وجلّ : ﴿نَزَلَ بـِه الرُّوْحُ الأَمِيْنُ عَلىٰ قَلْبـِكَ﴾!
*
قلت : لا شك أن هذا القول باطل مردود، وإذا كان الزركشي أورده في كتاب (البرهان في
علوم القرآن) أو غيرُه ممن اشتغل بالبحث في علوم القرآن – من قدامي وعصريين من
قبيل تدوين الآراء المختلفة والأقوال المتعددة حول قضية أو مسألة من المسائل
القرآنية ، إلا أنه ينبغي ألاّ تُطْرَح هذه الخلافات وألاّ تُذْكَر هذه الآراء
الباطلة في المجلات والصحف ، ويجب أن تبقى في مكانها ومراجعها لمن يريد أن يدرسها
ويقارن بينها وبين الصحيح دارس وباحث ، ومقارن مقتنع ، وبين الخطأ والصواب .
ذلك أن المثقفين العاديين – العصريين بصفة
خاصة – إذا وجدوا رأيًا مثل هذا الرأي الباطل منسوبًا إلى كتاب (البرهان في علوم
القرآن) ومُتَّهمًا به من قِبَل عالم فاضل مثل الدكتور العمري – حيث نقله في مقاله
بالمجلة – سوف يتأثرون به وربما ذهبوا إليه وأيّدوه ، أو ربما وجد الملحدون من
مثقفي العصر أساتذةً وطلابًا حجةً فيه للقول بأن القرآن قابل لشتى التأويلات ،
ومختلف التفسيرات . طالما أن النبي ﷺ كتبه أو عبّر عنه بألفاظ من عنده .
* * *
والقرآن
نفسه في آيات متعددة يُكذِّب هذا الرأي ويجعله باطلاً محضًا – فهو تارةً يقول :
(إِنَّآ أَنـْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبـِيًّا)، وأخرى يقول ﴿كِتَابٌ
فُصِّلَتْ آيَاتُه قُرْآنًا عَرَبـِيًّا﴾ وثالثًا : ﴿وَهـٰـذا
لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبـِيْنٌ﴾ إلى آخر الآيات التي لا نُحْصِيها في هذا
الهامش الوجيز.
والآية
التي استدل بها صاحب الرأي الباطل تبعتها آيتان تدحض مازعمه، فقد قال الله عزّ
وجلّ – في سورة الشعراء - : ﴿نَزَلَ بِه الرُّوْحُ الأَمِيْنُ – عَلىٰ
قَلْبِكَ لِتَكُوْنَ مِنَ المُنْذِرِيْنَ – بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِيْنٍ﴾
فقوله عزّ وجلّ : ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِيْنٍ﴾ تؤكد نزوله لفظاً
ومعنى من عند الله على قلب الرسول عليه الصلاة والسلام .
كما
أن الآيات التي جاءت في سورة القيامة تؤكد أن القرآن نزل لفظاً ومعنى من عند الله
: ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِه لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِه ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَه
وَقُرْآنَه – فَإذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهْ – ثـُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا
بَيَانَهْ﴾ فالله عزّ وجلّ أقرأه جبريل ، وجبريل أقرأه محمدًا ، وأمره الله
في هذه الآيات أن يتبع قراءة جبريل نصًا وحرفًا ، وأوصاه ألا يستعجل في حفظه خوف
السهو والنسيان ، فقد تَكَفَّل عزّ وجلّ بجمعه في صدره كما هو ، كما تَكَفَّل في
سورة الحجر بحفظه من التحريف والتبديل : ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا
الذِّكْرَ، وَإِنَّا لَه لَحَافِظُوْنَ﴾ .
وقد جاء في الحديث الصحيح : إن جبريل عليه
السلام كان يذاكر الرسول عليه الصلاة والسلام كل عام القرآن مرة واحدة ، وفي العام
الذي تُوُفِّي فيه ذاكره مرتين.
*
فكيف يُقَال أن القرآن أُنْزِلَ عليه بالمعنى وأنه عَبَّر عنه بألفاظ من عنده ؟
إنه
لاشك رأي باطل ، ومذهب مردود ، ويحسن بالكتاب والمؤلفين العصريين ألاّ يوردوه في
مقالاتهم ومؤلفاتهم . خشية من فتنة الشباب الذي يفتقد بحكم تطورات العصر وأحداثه
وهمومه ومشاغله الدقة والأناة في التفكير والتدبر والاقتناع بالصائب من الآراء.
كلمات
القرآن كلها عربية
كتب
كاتب فاضل في إحدى صحفنا المحلية تحت عنوان (في القرآن الكريم خمسون لغة .. وأكثر
من مائة كلمة غير عربية) يروي أقوال بعض المشتغلين بالدراسات القرآنية قديماً
وحديثًا .. حول وجود كلمات غير عربية في القرآن الكريم(1)
أما
قوله يوجد في القرآن خمسون لغة ، فهو يعني – كما نعتقد – خمسين لهجة عربية . لأن
القبائل العربية وإن كانت تجمعها اللغة الأم إلاّ أنها تختلف في لهجاتها وبعض
معاني كلماتها .. مما نُفَضِّل أن نُسَمِّيه اختلاف لهجة لا اختلاف لغة . لأن لغة
العرب واحدة ، والقبائل العربية تتفاهم فيما بينها بهذه اللغة الواحدة ، وتعرف كل
واحدة منها لهجة القبيلة الأخرى .
وقد
نقل الكاتب الفاضل قول الإمام السيوطي: «إن
في القرآن ثماني لغات غير عربية اُستُعمِلَت ألفاظ منها في كتاب الله ، وهي ألفاظ
معرَّبة ، وهذه اللغات هي الفارسية ، والرومية ، والنبطية ، والحبشية ، والبربرية
، والسريانية ، والقبطية»
.
ثم
ذكر الكاتب الكلمات غير العربية التي وردت في آيات القرآن – ومنها طُوبـٰـى
– وأسفار – وحرم – وأَلِيْمٌ – والصراط – وكنز – وقنطار – ودينار – ومسك – والأب –
ومُتَّكِئًا – وقسورة – ومشكاة – ومصرهن – والرحمن الخ .
ويرى
الكاتب الفاضل : أن وجود هذه الألفاظ غير العربية في القرآن دليل على عالمية العرب
واختلاطهم بالحضارات التي عاصروها . وأنَّ القرآن لم يستعمل هذه الألفاظ غير
العربية إلاّ بعد أن تداولتها ألسنةُ العرب وفهموها .
* * *
ونحن
نرى غير ما رأى الكاتب الفاضل ، وغير ما زعمه الزاعمون القدامى والمحدثون من وجود
كلمات غير عربية في القرآن الكريم .
وقد
سبق لنا أن رددنا على الأستاذ محمد صبيح في كتابه : (عن القرآن) حين قال : إن كلمة
(أب) معناها: فاكهة كما يرى الأستاذ «شادة»
في اللغة الحبشية .. أي أن الآية ذكرت الكلمة العربية وما يرادفها بالحبشية
تأكيدًا وتثبيتًا للمعنى ..
رددنا
عليه وعلى أستاذه «شادة»
بأن (أب) نوع من النبات ، كما يقول «اللورد
أفيري»
في كتابه: (محاسن الطبيعة) وهو مطعوم الحيوانات كما يقول الأستاذ طنطاوي جوهري في
تفسيره المعروف.
وتؤكد
هذا المعنى كتب اللغة كـ«القاموس»
و«المصباح»
و«المختار»،
وتُضِيْف بعضها بأن (الأب) مرعى أو كلأ ترعاه البهائم .
وإذا
كان (الأب) في اللغة الحبشية يعني الفاكهة ، فهذا لا يعني بالضرورة أن في القرآن ألفاظ
غير عربية ، وإن القرآن كرّر كلمة فاكهة بكلمة (أب) ليكون تعبيره باللغتين العربية
والحبشية من قبيل الترادف . لأن هذا الزعم الأخير والفهم الغبي يناقض بلاغة القرآن
وإيجازه وإعجازه .
وذهب
الأستاذ صبيح مرة أخرى المذهبَ نفسه في كلمة (اللهو) فقال : إنها بلغة أهل اليمن
تعني (المرأة) في قوله تعالى: ﴿اِتَّخَذُوْا دِيْنَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا﴾
وهو يريد بهذا التفسير والزعم بأن في القرآن ألفاظاً غير عربية : تنزيهَ القرآن من
الترادف في ألفاظه ، لأن اللعب واللهو لفظتان مترادفتان .
وبذلك
يرتكب خطأين : الزعم بأن في القرآن ألفاظاً أعجمية وأن في كلماته المعطوفة ترادفًا
لا يليق ببلاغته وإعجازه .
أما
الترادف في كلمتي اللعب واللهو، أو الفاكهة والأب فغير واقع وغير صحيح . وقد رأينا
أن الفاكهة مطعوم الإنسان والأب مطعوم الحيوان كما قرّر ذلك علماء النبات وعلماء
اللغة معًا .
واللعب
واللهو مختلفان أيضًا وليسا مترادفين كما تَوَهّم الأستاذ صبيح ؛ فاللعب يأتي
دائمًا للعبث والتطريب والتضحيك والسخرية والهزل ، وأمثلة ذلك محسوسة في الواقع
البشري لاتحتاج إلى ذكر أو سرد .
أما اللهو فهو ما يُلْهىٰ صاحبُه عن
المكارم والمحاسن، وقد يكون سخريةً وهزلاً وعبثًا وإضاعة للوقت والمال ، وقد يكون
انشغالاً بالتجارة الدائبة والكسب الناصب عن أعمال البر والعبادة ، أو انصرافًا
إلى النساء والبنين عن الخدمات الوطنية والاجتماعية .
وعلى
ذلك يكون معنى (اللهو) الانشغال سواء أكان بشاغل مُسعَد أو مُشقىً ، أو شاغل
مُضحَك أم مُبكىً .
* * *
وزعم
أيضًا أن كلمة (آية) وكلمة (سورة) عبريتان نقلاً عن مصحف (سيل) وهما كلمتان
عربيتان لاشك في أصالتهما العربية .
فإن
معاجم اللغة تكاد تجمع على أن (الآية) معناها: العلامة – أو الشخص – أو العبرة .
وآيات القرآن : علامات ، وأشخاص ، وعبر، هي علامات لما فيها من معالم الحق والخير
والجمال . وهي أشخاص أو شخوص لأن معانيها المعجزة شواخص للذهن المتأمل المتدبر
المتفكر، كذلك هي عِبَر ومواعظ لما فيها من قصص وأمثال ينتفع بها أولو الألباب .
كذلك
تكاد تجمع معاجم اللغة على أن (السورة) معناها المنزلة ، وسور القرآن منازل
ومقامات ، مقام بعد مقام ، ومرحلة بعد مرحلة من الوحي الإلـٰـهي الرفيع
البديع .
أو
هي مخففة من (السؤرة) بمعنى البقية : أي أن كل سورة من القرآن بقية من الوحي الإلـٰـهي
الذي كان يتنَزَّل شيئًا فشيئًا ..
أو
هي من (السور) لأن كل سورة محيطة بآيات معدودة تبتدئ ببداية خاصة وتنتهي بنهاية
مماثلة .
* * *
وبالرجوع
إلى (الرسالة) للأمام الشافعي ، ومقدمة تفسير الإمام الطبري ، وكتاب (التقريب)
للقاضي أبي بكر بن الطيب ، وكتاب (البرهان) في علوم القرآن للإمام الزركشي ، وإلى
آراء بعض أئمة اللغة العربية كأبي عبيد ، وأبي الحسن بن فارس نجدهم جميعًا يتفقون
على أنه ليس في القرآن غير العربية ؛ لأن الله تبارك وتعالى جعله مُعْجِزة لنبيه ﷺ
، ودلالة قاطعة على صدقه ، وليتحدَّى به العربَ العرباء ، ويحاضر البلغاء والفصحاء
والشعراء بآياته المعجزات .
وبين
أيدينا وأعيننا وأسماعنا القرآن نفسه يقرر جازمًا حازمًا أصالته العربية في كل
ألفاظه وجملة وآياته وسوره وحروفه :
·
﴿إِنَّا
أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُوْنَ﴾.
·
﴿كِتَابٌ
فُصِّلَتْ آيَاتُه قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَّعْلَمُوْنَ﴾.
·
﴿وَكَذٰلِكَ
أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا﴾ .
·
﴿وَكَذٰلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ .
·
لِتَكُوْنَ
مِنَ الْمُنْذِرِيْنَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِيْنٍ﴾.
·
﴿لِسَانُ
الَّذِيْ يُلْحِدُوْنَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَّهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِيْنٌ﴾.
نعود
إلى مزاعم القائلين بوجود ألفاظ أعجمية في القرآن الكريم ، ونستفتح بكلمة للإمام
الشافعي رحمه الله في كتابه (الرسالة) يقول فيها : (ليس في كتاب الله شيء إلاّ
بلسان العرب .. وهو أوسع الألسنة مذهبًا ، وأكثرها ألفاظاً ، ولا يحيط بجميع علمه
أحد) .
وقد
أشرنا إلى بعض العلماء الأقدمين الباحثين في علوم القرآن الذين نَفَوْا أيضًا وجود
كلمات غير عربية في القرآن الكريم كالإمام الطبري والقاضي أبي بكر بن الطيب ،
والإمام الزركشي ، وأبي عبيد وابن فارس .
ونضيف
اليوم : أنهم لايمنعون وجود أعلام أعجمية في القرآن كأسماء بعض الأنبياء : نوح
ولوط وإسرائيل .
ونقول
: لو أن العرب العرباء الذين استمعوا إلى القرآن ، وجدوا فيه حرفًا واحدًا من غير
العربية لكان لهم حجة في الطعن عليه ، ولقالوا: إن محمدًا يخاطبنا بغير حروفنا ،
أو بغير ما نعرف من كلام ، ولكنهم افتقدوا هذه الحجة فلم يجدوا أمامهم إلاّ أن
يزعموا أن القرآن : سحر أو شعر أو أنه أساطير الأولين .
ولا
يمنع كون القرآن عربيًّا خالصًا : أن تكون هناك لفظة أو كلمة منه معروفة أو
مستعملة عند أمة غير عربية أو متداولة بين أفرادها وتكون بذلك مشتركة بين العربية
وغيرها ، أو مقتبسة أساسًا من العربية !. كما هو مشاهد وملحوظ في لغات الفرس
والهنود والترك من اشتمالها على كلمات عربية أصيلة أصبحت في تلك اللغات الأعجمية
أصيلة فيها أيضًا .
* * *
ولاندري
كيف يزعم هؤلاء أن كلمة (أليم) زنجية – وكلمة (بعير) عبرية – وكلمة (ناشئة) حبشية
– مع أن كلاًّ منها أصيل في اللغة العربية، وخاصة الكلمات ذات الاشتقاق الواسع مثل
(أليم) فمنها الاسم (الألم) والفعل (يألم)، وقد جاء في القرآن قوله عزّ وجلّ : ﴿يَأْلَمُوْنَ
كَمَا تَألَمُوْن﴾ ..
ومثلها
كلمة (ناشئة) فقد ورد في القرآن قوله تبارك وتعالى : ﴿إِنَّآ أَنْشَأْنَا
هُنَّ إِنْشَآءً..﴾ وقوله تعالى: ﴿وَنُنْشِئُكُمْ فِيْمَا لاَ
تَعْلَمُوْنَ﴾ وقوله : ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ النَّشْأَةَ الأُوْلىٰ
فَلَوْلاَ تَذَكَّرُوْنَ﴾ الخ .
وكذلك
لفظة (حرم) التي زعموا أنها حبشية. وهي عربية أصيلة ذات اشتقاق واسع ، فقد أورد
القرآن: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ﴾ و ﴿يُحِلُّوْنَه
عَامًا وَّيُحَرِّمُوْنَه عَامًا﴾ و ﴿وَحَرَامٌ عَلىٰ
قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَيَرْجِعُوْنَ﴾ الخ ..
وكلمة
(الرحمن) التي زعموا أنها غير عربية واشتقاقاتها المتعددة تدل على أصالتها في لغة
العرب فمنها : (رحيم) و (الرحمة) : ﴿وَرَحْمَتِيْ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾
و ﴿رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ﴾ .
ومن
العجائب أيضًا قولهم : إن قوله عزّ وجلّ ﴿يَوْمًا يَّجْعَلُ الْوِلْدَانَ
شِيْبًا .. اَلسَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِه﴾ يعني أن السماء ممتلئة به باللغة
الحبشية .
ولا
أدري كيف ينكرون مادة (فطر) ومشتقاتها الأصيلة في اللغة العربية ؟ ثم هل تمتلئ
السماء بيوم القيامة الهائل ؟ وما صورة هذا الامتلاء ؟ أم المعنى الصحيح أن السماء
تنشق وتُطْوَى كطي السجل للكتب.. كما نص القرآن نفسه في سورة الانفطار: ﴿إِذَا
السَّماءُ انْفَطَرَتْ﴾.
ولا
يقف هؤلاء الزاعمون أن في القرآن ألفاظاً أعجمية عند حد ، بل يَتَمَادَون في
أفهامهم العجيبة الغريبة حتى أنهم ليتناقضون في تفسير اللفظة مع المعنى المفهوم من
سياق الآية ..
وذلك
كقولهم : إن (سجدًا) من سورة مريم في قوله عزّ وجلّ : ﴿خَرُّوْا سُجَّدًا
وَبُكِيًّا﴾ معناها بالسريانية مقنعي رؤوسهم . وإقناع الرأس رفعه .. كما
جاء في سورة إبراهيم ﴿مُهْطِعِيْنَ مُقْنِعِي رُؤُوْسِهِمْ . لاَيَرْتَدُّ
إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ﴾ فكيف يكون معنى (سجدا)
هنا بمعنى رافعي رؤوسهم إلى فوق؟ وأول الآية يصفهم بأنهم (خَرُّوا) أي هبطوا
ونزلوا ، وآخرها وصفهم بأنهم كانوا (بُكِيًّا) ؛ فهل يهبطون إلى تحت ويبكون وهم
رافعو الرؤوس ؟
ومن
عجائبهم وغرائب تفكيرهم وتفسيرهم قولهم: إن (سفرة) من سورة (عبس) : معناها
بالنبطية (قراء) – ولفظ (سفر) أصيل في اللغة العربية ، واشتقاقاته الفعلية والاسمية
متعددة ومعروفة .
ووصف
الملائكة بأنهم (سفرة) بالمعنى العربي أصح وأفصح ؛ فهم سفراء بين الله عزّ وجلّ
وبين رسله وخلقه أيضًا ، بينه وبين رسله بالوحي ، وبينه وبين خلقه بالتدبير والحفظ
وتسجيل الأعمال .
ولأن
سياق الآيات يعني ذلك: ﴿كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌo فَمَنْ شَآءَ ذَكَرَه o فِيْ صُحُفٍ
مُّكَرَّمَةٍ o مَّرْفُوْعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ o بِأَيْدِيْ
سَفَرَةٍ o كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾ .
أي
أن القرآن الكريم منزّل من عند الله عزّ وجلّ مع سفراء أمناء .. لايبدلونه ولا
يحرفونه فأين معنى (سفراء) من معنى (قراء) !
وبعد
.. فهذا ما أحببنا أن نعقِّب به على رأي الكاتب الفاضل حول مزاعم القائلين بوجود
ألفاظ أعجمية في القرآن الكريم .
ترجمة
القرآن حرفيًا غير ممكنة !
حول
ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى يدور حوار دائم بين الطلاب المُبْتَعَثين
لإتمام دراستهم خارج المملكة ؛ لأنهم يرون إخوانهم المسلمين من الأمريكيين
والأوربيين لا يستطيعون أن يقرأوا القرآن ويدركوا إعجاز آياته ، ويفهموا معانيها
الروائع ، كما يسعد بذلك من يعرف اللغة العربية .
ولذلك يطالبون بترجمة القرآن الكريم ، ويدعون
إلى ذلك بإلحاح ؛ لأنهم يحبون بصدق أن يدرك المسلمون من غير العرب بلاغة القرآن
الكريم ، وروعة ألفاظه ، وجمال معانيه ، وعدالة أحكامه ، وعظمة مبادئه.
وقد
سألني أحد هؤلاء الطلاب قائلاً : أثناء حواري مع زملائي حول المطالبة بترجمة
القرآن الكريم ذكر بعضهم أن العلماء منعوا الترجمة وحرموها ، وأباحوا ترجمة
التفسير والمعاني فقط ، على أن تُسمَّى الترجمة : (تفسير القرآن) أو (بيان المعاني
القرآنية) ولا يُطْلَقُ عليها اسمُ (المصحف الشريف – أو القرآن الكريم) فما هو
رأيكم في ذلك ؟
*
قلت للطالب السائل : هذا صحيح .. فقد أدرك علماؤنا المخلصون الصادقون : أن الترجمة
الحرفية للقرآن لا تتأتى ؛ لأن أسلوب القرآن في أعلى قِمَم البلاغة العربية ، ومن
صُوَرها الاستعارة والمجاز ، والكناية ، والمعنى المشترك ، والتضمين والحذف
والإيجاز، والمطلق والمقيد، والخاص والعام الخ .
ونضرب
لذلك بعض الأمثلة . قوله عزّ وجلّ: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ
لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾(2) كيف تترجم كلمة (لباس)؟ إنها لو تُرْجِمَت
حرفيًا لا تؤدي المعنى المقصود منها .. وسيكون البديل اللفظي عنها في اللغة الأخرى
ما معناه باللغة العربية : (الثوب) أو الرداء ، أو أي لفظة أخرى تفيد المعنى
المتعارف عليه بين الناس .
وهو غير مقصود من الآية – كما أسلفنا – وإنما
استعار القرآن لفظة (لباس) للتعبير عن الصلة الطبيعية بين الرجل والمرأة لأن كلاًّ
منهما يشتمل على الآخر ويستره عن الحرام ، كما تستر الثيابُ عورات الأجسام.
ولاتجد
في لغة غير العربية هذا المعنى البلاغي في كلمة واحدة لتضعها بديلاً عن كلمة
(لباس) وإنما تحتاج إلى تفسير المقصود منها بجملة تتعدد كلماتها إلى نحو العشر أو
تزيد .
ومثلها كلمة (المسّ) في قوله عزّ وجلّ: ﴿يَآ
أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ
طَلَّقْتُمُوْهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوْهُنَّ فَمَالَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ
عِدَّةٍ تَعْتَدُّوْنَهَا.﴾(3) فإن معناه: الدخول بالزوجة أي
مباشرتها ، وليس المقصود منه مجرد المعنى اللغوي أي اللمس باليد ، أو أي جزء من
الجسد .
كذلك كلمة (حرث) في هذه الآية : ﴿نِسَاؤُكُمْ
حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوْا حَرْثكُمْ أنَّىٰ شِئْتُمْ..﴾(4)
فالحرث في اللغة الأرض التي تُعَدُّ للزراعة ، وقد أُطْلِقَت الكلمة هنا من قبيل
المجاز أو تشبيه الزوجة بالأرض وتشبيه اتصال الرجل بها من أجل الولد بزرعها تمامًا
كما تُحرَث الأرض وتُزْرَع لتنبت الثمار من غذاء وفاكهة للإنسان والحيوان .
ومثل
آخر قوله عزّ وجلّ : ﴿فَكُلُوْا وَاشْرَبُوْا حَتّىٰ يَتَبَيَّنَ
لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾(5)
لا تؤدي ترجمة الآية الحرفية إلى المراد من الخيط الأبيض والخيط الأسود .
والأمثلة
على عدم إمكانية الترجمة الحرفية لألفاظ القرآن الكريم وآياته لا تُحْصَىٰ
في حديث أو حتى في كتاب ، وإذن فلا بأس أن تترجم تفاسيره ومعانيه ، ولا تسمى
مصحفًا ولا قرآنًا .. لأنها ليست من كلام الله الحرفي الذي حفظه عزّ وجلّ من
التحريف والتبديل : ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ، وَإِنَّا لَه
لَحَافِظُوْنَ﴾ .
حول كتابة
المصحف .. بالحروف اللاتينية
نشرت
«المسلمون»
يوم 12/4/1407هـ - 13/12/1986م خبرًا عن تأليف لجنة بجامعة الأزهر لطبع المصحف ورسم كلماته بالحروف اللاتينية لمساعدة
المسلمين غير الناطقين بالعربية على قراءة القرآن الكريم قراءة صحيحة .. وجاء – في
الخبر- أن الطبعة الجديدة سوف تشتمل كل صفحة منها على ثلاثة أقسام: الأولى تكتب
فيه السورة باللغة العربية بالرسم العثماني ، والقسم الثاني خاص بالكتابة الصوتية
أي تمثيل الصوت العربي بالحروف اللاتينية ، والقسم الأخير لترجمة معاني القرآن
الكريم باللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والأسبانية
والبرتغالية كل على حدة».
هذا
الخبر عقب عليه الدكتور محمد أحمد أبوفراخ بمجلة «الدعوة»
السعودية الصادرة يوم 5/5/1407 – 5/1/1987 معترضًا على فكرة كتابة المصحف بالحروف
اللاتينية حيث قال : إن هذا أمر ممنوع جملة وتفصيلاً ، علمًا وعملاً، لايمكن
تحقيقه إلاّ إذا وجدت حروف لاتينية جديدة تنطبق على الحروف العربية وهو أمر غير
ممكن لأن العربية تمتاز بحروف لا توجد في اللغات الأخرى مثل (الضاد) و (العين)
(والغين) و (القاف) كما لا يمكن تحقيق اللغة ، والإخفاء ، والإدغام ، والمدّ
اللازم ، والإقلاب الخ .
ويضيف
الدكتور أبوفراخ : إن العلماء قد منعوا كتابة المصحف بغير الرسم العثماني ، فكيف
يجيز علماء اليوم كتابة المصحف بغير الحروف العربية أي بالحروف اللاتينية وغيرها !
ثم
أشار إلى أن هناك كلمات في المصحف تُكْتَب على غير الإملاء العادي مثل «الصلوة»
و «الربـٰـوا»
و «الحيـٰـوة» و «البلوء» و «رحمت» بالتاء المفتوحة – فكيف
تُكْتَب بالحروف اللاتينية – كما أن الحروف
المقطوعة في أوائل بعض الصور مثل (الٰمّ – والٰر – والٰمّر)
كيف تُكْتَبْ؟ هل تُكْتَبْ كما كتبها عبد الله يوسف: (A-L-M) ؟ وكيف تُكْتَبْ (ص)؟ هل تُكْتَبْ (SAD) وهي بمعنى حزين ؟ وماذا تفعل اللجنة المؤلفة لأجل هذا الأمر في
بعض الكلمات القرآنية التي تُقْرَأ على وجهين مثل «مالك»
و«يخادعون»
و«الرياح»
وغيرها ؟
ثم
يؤكد الدكتور أبوفراخ : أَنَّ هذا العمل سيتيح الفرصة
لأعداء الإسلام للمزيد من تحريف القرآن الكريم، ويرى أن يُسْتَبدل هذا
المشروع بمحاولات جادة لتعليم العربية لغير الناطقين بها ليسهل عليهم قراءة القرآن
باللغة العربية ، ثم يذكّر اللجنة بما فعله «أتاتورك»
حين استبدل الحروف اللاتينية – في اللغة
التركية – بالحروف العربية ، وتأثير ذلك على الأتراك في كتابتهم وكلامهم وثقافتهم
الإسلامية، وكذلك ما حدث في جزيرة «الملايو» من إحلال الملايوية محل العربية بين المسلمين هناك.
*
ولا شك أن اعتراض الدكتور أبوفراخ وجيه من بعض الوجوه . ومع ذلك نرى أنه لا بد من
تيسير قراءة القرآن على غير الناطقين باللغة العربية ، ممن يدخلون في الإسلام قبل
أن يتعلموها ، فهؤلاء محتاجون إلى قراءة قصار السور – على الأقل – ليقرأوها في
صلواتهم الخمس كل يوم .
ولذلك
أرى أن يقتصر عمل اللجنة على كتابة «جزء
عم»
وحده بالحروف اللاتينية على أن يوضع في جانب الحرف اللاتيني النص القرآني بالحرف
العربي .. من أجل تيسير قراءة سُوَر الصلاة على معتنقي الإسلام من الشعوب غير
العربية الذين نلاحظ تزايد أعدادهم خلال السنوات العشر الأخيرة .
أما
ما ذكره الدكتور أبوفراخ من مخاوف أخرى مثل تعذر أو تعسر كتابة الحروف المقطعة في
أوائل السور فأرى أن ذلك ليس عسيرًا ، وهي يجب أن تُكْتَب مثل منطوقها ، لا على
طريقة عبد الله يوسف (A.L.M) وإنما تكتب هكذا (Alif, Lam, Meem) ومثلها جميع
الأحرف الأخرى مثل (ص) و (ق)، وغير مهم أن لا نجد في اللغة اللاتينية حروفًا
تماثلها في النطق تمامًا ؛ لأن الأعجمي نفسه لا ينطقها ولو كُتِبَتْ بالحروف
العربية إلاّ مثل نطقها بالحرف اللاتيني . ومثلها الضاد والطاء فهو ينطقها «دالاً»
و «تاء»
وقد تعود لسانه على حروف لغته الأصلية .
وكذلك
كلمات (الصلاة) و (الربا) واشباهها تكتب حسب نطقها لا حسب الإملاء العثماني –
هكذا: (Assalat) و (Arriba) .
ونلاحظ هنا: أن قول الدكتور أبوفراخ بمنع
العلماء كتابة المصحف بغير الرسم العثماني ليس مطلقًا أولاً : لأن الرسم العثماني
ليس أمرًا توقيفيًا أمر به الرسول ﷺ ، وإنما كان هو المستوى الممكن الموجود من الإملاء أو
الكتابة في عهد سيدنا عثمان رضي الله عنه .
وثانيًا
: لأن المنع من تغيير الرسم العثماني كان ولا يزال من قبيل «سد
الذريعة»
أي تخوفًا من جراءة الأجيال التالية من تغيير رسم القرآن كلما بدت لبعضهم رغبة في
التحسين والتسهيل .
وثالثًا
: لاختلاف إملاء الكلمة الواحدة في رسم المصحف العثماني بين سورة وسورة لاختلاف
المستوى الكتابي للخطاطين مثل كلمات (الأيكة) و (الجنة) و (نبأ) و (الإصلاح) إلخ .
ورابعًا
: لأن بعض المانعين – من علماء السلف – أرادوا اقتفاء أثر الصحابة رضي الله عنهم
على سبيل التبريك كما يقول ابن خلدون .
خامسًا : نُقِلَ عن الأئمة مالك والعز بن عبد
السلام والقاضي أبي بكر وابن خلدون إجازتهم كتابةَ المصحف للصغار بالإملاء العادي
ليتمكنوا من قراءته وحفظه.
وقد
بحثت هذه المسألة بتفصيل وسعة في كتابي «مع
المفسرين والكتاب» في طبعته الأولى
سنة 1373 والثانية سنة 1394هـ .
ملاحظات
على قراء القرآن :
أعني بالقراء حفظةَ القرآن الكريم الذين
يرتلونه في الاحتفالات السارة والحزينة – أقصد المآتم – وإن كان ترتيلهم للقرآن
الآن اتسع وازداد انتشارًا بواسطة الإذاعات والتلفازات ، وبخاصة إذاعات القرآن
المخصصة له .
وهؤلاء
القراء جُدَرَاءُ بالإجلال والمودة والحب والتعظيم ، لأنهم حَمَلَة كتاب الله
المجيد . وقد جاء في التوجيه النبوي : (إن من إجلال الله : إجلال ذي الشيبة المسلم
، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه ، والإمام المقسط)(6) أو
كما قال ﷺ. والأحاديث النبوية
الواردة في تعظيم حَمَلَةِ القرآن كثيرة لا تتسع لها هذه الكلمة الوجيزة ، ونكتفي
بواحد منها غير ما أسلفنا ، وهو قوله ﷺ
: «إن
لله أهلين من الناس قالوا: من هم يا رسول الله قال : أهل القرآن هم أهل الله
وخاصَّته»
.
فحسب
حملة القرآن أنهم أهل الله وخاصّته ، وحسبهم كذلك أن الله جعل من إجلاله تبارك
وتعالى إجلالهم لأنهم حَفَظَةُ كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من
خلفه .
لقد
أردت بهذا التقديم : أن أقول لحَمَلَةِ القرآن الكريم – وأعني القراء في مقدمتهم –
أن يهتموا بمعاني الآيات التي يرتلونها ، واتصال بعضها ببعض بحيث يجب الوقف
أحيانًا ، كما يجب الوصل أحيانًا أخرى . فالقرآن الكريم ليس مجرد آيات تقرأ كيف ما
اتفقت القراءة ، وحتى لو ختمت الآية يجب أن نلاحظ أن بداية الآية التالية هل ترتبط
بها أم لا ترتبط ؟
فهناك
آيات عديدة ختمت حسب الترتيب أو الترقيم وحسب نظام الآيات في السورة ، ولكنها من حيث المعنى مازالت مرتبطة بالآية التي تليها
ارتباطاً قويًا بحيث لا يجوز الوقف في ختام الآية السابقة بل يجب وصل الختام
بالبداية كقوله تبارك وتعالى : ﴿وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُوْنَ﴾
وهو ختام الآية الثالثة من سورة الروم لكنه موصول بالآية الرابعة: ﴿فِيْ
بِضْعِ سِنِيْنَ..﴾ أي أن غلبة الروم ستكون خلال بضع سنوات قادمة ، ثم يأتي
تمام الآية الرابعة: ﴿.. للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ
ويَوْمَئِذٍ يَّفْرَحُ الْمُؤْمِنُوْنَ..﴾ وهذا الختام متصل أيضًا بالآية
التالية : ﴿بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَّشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيْزُ
الرَّحِيْمُ﴾ .
وقد
لاحظت قارئًا كبيرًا مشهورًا(7) يقف في تلاوته لبعض آيات من سورة يوسف
، أي يختم تلاوته بقوله «صدق
الله العظيم»
بالآية: ﴿ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّيْ لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ،
وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِيْ كَيْدَ الْخَائِنِيْنَ﴾ وكان حقًا عليه أن
يصلها بالآية التالية لها : ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِيْ إِنَّ النَّفْسَ
لأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ إِلاّ مَا رَحِمَ رَبِّيْ إِنَّ رَبِّيْ غَفُوْرُ
رَّحِيْمٌ﴾ لأن هذه الآية من تمام كلام إمرأة العزيز، فكان ينبغي وصلها
بالآية السابقة لها لأن الاستئناف بآية: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِيْ..﴾
في تلاوة أخرى يجعل الآية لا مفهوم لها ، أو غير مذكور من قالها أو من حكيت عنه.
ولعل
الذي أوقع هذا القارئ الكبير في هذا الخطأ، كما أوقع فيه بعض أئمة المساجد عندما
يقرؤون سورة يوسف في صلاة التراويح في رمضان هو الخطأ الواقع في تحزيب المصحف .
فتحزيب المصحف جعل آية ﴿وما أبرئ نفسي﴾ بداية الحزب الخامس والعشرين
وبداية الجزء الثالث عشر، وهو خطأ كغيره من أخطاء التحزيب المتعددة . وكان الصواب
أن تكون بداية الحزب(25) والجزء (13) هي الآية: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ
ائْتُوْنِيْ بِه أَسْتَخْلِصْه لِنَفْسِيْ..﴾ لأنها بداية فصل جديد من قصة
يوسف عليه السلام .
وهناك
ملاحظة مهمة على أحد القراء المشهورين، وهو خلف لسلف مشهور أيضًا ، أي أنه إبن
قارئ كبير معروف – رحمه الله –(8) .
وهي
– أي الملاحظة – إنه عندما يقرأ سورة الرحمن يبدأ هكذا : ﴿بسم الله الرحمن
الرحيم . الرحمن﴾ ويقف ، أي إنه يصل أول السورة ، لفظة «الرحمن»
وحدها مع البسملة ثم يستأنف: ﴿عَلَّمَ الْقُرْآنَ ..﴾ وفي هذا تخليط
وتغليط ..
تخليط
لأنه كرَّر لفظ «الرحمن»
بعد الرحمن الرحيم.. وتغليط للعامة وللأعاجم فقد يتوهمون إن هذه بسملة جديدة يتكرر
فيها إسم «الرحمن»
ثم لابدَّ لاستقامة معنى الآية أن نصل الآية الأولى من سورة الرحمن وهي : (الرحمن)
بالآية التالية : ﴿عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ لأنهما تكوِّنان جملة واحدة
من مبتدأ وخبر، أو فاعلٍ وفعلٍ ومفعول به ، وهما من الآيات التي أسلفنا القول من
ضرورة وصلها في سورة الروم وغيرها .
كما لاحظت الشيخ «محمد محمود عوض» يقرأ أوائل سورة الروم حيث يفصل ما حقه الوصل بين آيتين ،
وليتضح خطأ التلاوة نذكر الآيات الأولى من سورة الروم وهي قوله عزّ وجلّ: ﴿$O!9# (1) غُلِبَتِ الرُّوْمُ(2) فِيْ أَدْنَى الأَرْضِ
وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُوْنَ(3) فِيْ بِضْعِ سِنِيْنَ للهِ
الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَّفْرَحُ الْمُؤْمِنُوْنَ(4)
بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَّشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيْزُ الرَّحِيْمُ(5)﴾.
والملاحظ
على القارئ أنه يقف وقفة طويلة على ختام الآية الثالثة : (سَيَغْلِبُوْنَ) ثم
يستأنف: ﴿فِيْ بِضْعِ سِنِيْنَ للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ..﴾
وبذلك يجعل الظرف: ﴿فِيْ بِضْعِ سِنِيْنَ﴾ تابعًا لما بعده في حين
أنه ظرف لما قبله: (سيغلبون) وبهذا ينحرف المعنى انحرافًا خاطئًا خطأً كبيرًا إذ يحصر أمر الله الأزلي الأبدي المعبِّر عنه بقوله : ﴿من
قبل ومن بعد﴾ يحصره ﴿في بضع سنين﴾ مع أن بضع السنين هذه هي
طرف لما قبلها: (سيغلبون) أي أن الروم بعد هزيمتهم أمام فارس سينتصرون عليها خلال
بضع سنين . وقد تمت هذه المعجزة القرآنية في قصة طويلة لا يتسع المجال لسردها.
والذي
أهدف إليه من كتابة هذه الملاحظة أن إذاعة القرآن الكريم تستطيع إصلاح هذا الخطأ
في هذه التلاوة ، وذلك بإعادة التسجيل مع قطع الوقفة التي وقفها القاريء على جملة
(سيغلبون) ووصلها بجملة (بضع سنين) ثم يقف التسجيل وقفة بسيطة يواصل بعدها: (للهِ
الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ..) الآية ..
ملاحظات
على تحزيب المصحف
إن
قراء القرآن – أي حفظته بالدرجة الأولى – يجب أن لا يكتفوا بحفظه أو تلاوته ،
وإنما ينبغي أن يتدبروا معانيه ، واتصال عباراته وجمله ، ووحدة موضوعاته ومقاطعه ،
دون التزام بنظام التحزيب فيه . لأن التحزيب – كما أسلفت – فيه أخطاء ، وهو لا
يقوم على قاعدة مسلَّمة .
ونضرب
الأمثال على ذلك ، ونكرّر التذكير في البداية بما لاحظناه آنفًا في سورة يوسف إذ
كان الواجب أن يبدأ الحزب الخامس والعشرون بالآية: ﴿قال الملك..﴾
وهذه بعض الأمثلة :
*
أولاً : بداية الحزب الرابع من سورة البقرة هو الآية: ﴿وَاذْكُرُوْا اللهَ
فِيْ أَيَّامٍ مَعْدُوْدَاتٍ..﴾ وكان ينبغي أن تكون ختام ثلاثة أرباع الحزب
لأنها متصلة بأيات الحج وموضوعه ، وتكون الآية التالية: ﴿وَمِنَ النَّاسِ
مَنْ يُّعْجِبُكَ قَوْلُه فِيْ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا..﴾ هي بداية الحزب الرابع.
*
ثانيًا: بداية الحزب التاسع من سورة النساء هو الآية:
﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ..﴾ وكان ينبغي أن تكون
ختام ثلاثة أرباع الحزب ؛ لأنها متصلة اتصالاً لفظيًا ومعنويًا بالآية: ﴿حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتِكُمْ وَبَنَاتِكُمْ..﴾ وآية المحصنات بل المحصنات
أنفسهن معطوفات على المحرَّمات في الآية السابقة ، فيجب الفصل ، ثم تكون بداية
الحزب التاسع : ﴿وَمَنْ لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً..﴾ ومن
الممكن أيضًا أن نرجع ببداية الحزب التاسع إلى آية: ﴿حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ..﴾ لئلا تطول المسافة بين أرباع الحزب الواحد .. فإما أن نتقدم
آية أو نتأخر آية من أجل ارتباط المعاني ، وإدراك المقاصد القرآنية ، وعدم الفصل
بين المعطوفات اللفظية والمعنوية .
ثالثًا
: يبدأ الحزب الواحد والعشرون من الآية : ﴿إنَّمَا السَّبِيْلُ عَلَى
الَّذِيْنَ يَسْتَأْذِنُوْنَكَ..﴾ وكان ينبغي أن يبدأ من الآية: ﴿لَيْسَ
عَلَى الضُّعُفَاءِ وَلاَ عَلَى المَرْضىٰ..﴾ وهي سابقة على الآية
الأولى .. والله عز وجل خلال الآيات الثلاث ينفى الحرج واللوم عن أصحاب الأعذار
المذكورين في الآيتين (91 و 92) ويثبتهما في حق الذين يستأذنون الرسول عليه الصلاة
والسلام للتخلف عن الجهاد مع أنهم قادرون عليه في الآية(93) .. فالفصل بين نفي
الحرج على طائفة وإثباته على طائفة أخرى لا يصح بحال من الأحوال .
وهناك
خلال أحزاب المصحف البالغة ستين حزبًا أمثلة عديدة من عدم التنظيم والتوفيق بين
المواقف بحيث يستقيم اللفظ والمعنى معًا لقارئ القرآن حين يبدأ أو حين ينتهي .
ومن
الملاحظ علىتحزيب المصحف أنه لا يخضع لعدد الآيات أو لعدد الصفحات ، وعدد الصفحات
أضبط و أصح لأن مساحة الصفحة واحدة في المصحف؛ ولكن الآيات تختلف طولاً وقصرًا ..
فبعض الآيات كلمة واحدة كالحروف التي تبدأ بها بعض السور (كطـٰـهٰ) و
(يـٰـس) و (الٰم) السجدة وأمثالها من السورة نفسها : (ليوم الفصل)
وبعض الآيات تستغرق صفحة كاملة كآية الدين في سورة البقرة ، أو نصف صفحة كآية
الكرسي .
ولهذا
لا يستقيم التحزيب بَعدد الآيات ، وإنما يستقيم بعدد الصفحات لأن الصفحات متساوية
– كما أسلفنا - .
وقد
لاحظنا أن أرباع الحزب قد يستغرق بعضها ثلاث صفحات من المصحف وبعضها صفحتين ونصف،
وبعضها صفحتين ، وبعضها صفحة ونصف..
ولست
أدعو إلى تغيير تحزيب المصحف .. وإنما أدعوا القراء ألا يتقيدوا بهذا التحزيب في
قراءتهم ، وإنما عليهم أن يلاحظوا ارتباط آخرٍ ربع الحزب بالربع التالي من حيث
المعنى وحده أو المعنى واللفظ معًا ؛ لأن هذا الفصل لا يفعله المتكلم العادي – أي
إنسان – حين يتحدث أو يخطب .. فكيف نرضاه لكلام الله ، الذي هو أفضل الكلام وأجمله
، وأبلغه وأصدقه ؟
* * *
الهوامش :
(1)
الأستاذ محمد عبد الله مليباري في جريدة (الندوة) 25/12/1397هـ .
(2)
سورة البقرة 187 .
(3)
سورة الأحزاب 49 .
(4)
سورة البقرة 223 .
(5)
سورة البقرة 187 .
(6)
رواه أحمد والدارمي .
(7)
هو الشيخ مصطفى إسماعيل رحمه الله .
(8)
هو القارئ الشيخ محمود صديق المنشاوي .
*
* *
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الثانية – رجب
1426هـ = يوليو – سبتمبر 2005م ، العـدد : 7–6 ، السنـة : 29.